كيف يكون كذلك، و قد كلفهمفي هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقةالتي لا يقدر على تحملها إلا الموفق منعند اللّه تعالى؟ قلنا: قد ضربنا لهذاالمعنى مثل الطبيب الحاذق و الأب المشفق،و المعنى: أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوامن العقاب المؤبد، و يفوزوا بالثوابالمؤبد.
السؤال الثاني:
لما قال: عَزِيزٌ عَلَيْهِما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْفهذا النسق يوجب أن يقال: رؤوف رحيمبالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق و قال:بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.الجواب: أن قوله: بِالْمُؤْمِنِينَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يفيد الحصر بمعنى أنه لارأفة و لا رحمة له إلا بالمؤمنين. فأماالكافرون فليس له عليهم رأفة و رحمة، و هذاكالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة منالتغليظ كأنه يقول: إني و إن بالغت في هذهالسورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليظ علىالكافرين و المنافقين. و أما رحمتي و رأفتيفمخصوصة بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقةعدل على ذلك النسق.
[سورة التوبة (9): آية 129]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَاللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِتَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِالْعَظِيمِ (129)أما قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا يريدالمشركين و المنافقين. ثم قيل: تَوَلَّوْاأي أعرضوا عنك. و قيل: تولوا عن طاعة اللّهتعالى و تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. و قيل: تولوا عن قبول التكاليفالشاقة المذكورة في هذه السورة، و قيل:تولوا عن نصرتك في الجهاد. و اعلم أنالمقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لوأعرضوا و لم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخلفي قلب الرسول حزن و لا أسف، لأن اللّهحسبه و كافيه في نصره على الأعداء، و فيإيصاله إلى مقامات الآلاء و النعماء لاإِلهَ إِلَّا هُوَ و إذا كان لا إله إلا هووجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكناتو لا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، و إذاكان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، و أمرنيبهذا التبليغ كانت النصرة عليه و المعونةمرتقبة منه.ثم قال: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و هو يفيدالحصر أي لا أتوكل إلا عليه و هو رب العرشالعظيم، و السبب في تخصيصه بالذكر أنهكلما كانت الآثار أعظم و أكرم، كان ظهورجلالة المؤثر في العقل و الخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كانالمقصود من ذكره تعظيم جلال اللّه سبحانه.فإن قالوا: العرش غير محسوس فلا يعرفوجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكنذكره في معرض شرح عظمة اللّه تعالى؟قلنا: وجود العرش أمر مشهور و الكفارسمعوه من اليهود و النصارى، و لا يبعد أيضاأنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم و من الناسمن قرأ قوله: الْعَظِيمِ بالرفع ليكون صفةللرب سبحانه. قال أبو بكر: و هذه القراءةأعجب، لأن جعل العظيم صفة للّه تعالى أولىمن جعله صفة للعرش، و أيضا فإن جعلناه صفةللعرش، كان المراد من كونه عظيما كبر جرمهو عظم حجمه و اتساع جوانبه على ما هو مذكورفي الأخبار، و إن جعلناه صفة للّه سبحانه،كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية و الأجزاء و الأبعاض،و كمال العلم و القدرة، و كونه منزها عن أنيتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. وقال الحسن: هاتان الآيتان آخر ما