المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرحمعايب هؤلاء الكفاء و فضائحهم، عاد إلىالترغيب في مقاتلتهم
و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مالَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِيسَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَىالْأَرْضِ و تقرير الكلام أنه تعالى ذكرفي الآيات السابقة أسبابا كثيرة موجبةلقتالهم، و ذكر منافع كثيرة تحصل منمقاتلتهم كقوله: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُبِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 14] و ذكرأقو الهم المنكرة و أعمالهم القبيحة فيالدين و الدنيا، و عند هذا لا يبقى للإنسانمانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة فبين تعالى أن هذا المانع خسيسلأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادةالآخرة كالقطرة في البحر، و ترك الخيرالكثير لأجل الشر القليل جهل و سفه.
المسألة الثانية: المروي عن ابن عباس أنهذه الآية نزلت في غزوة تبوك،
و ذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائفأقام بالمدينة و أمر بجهاد الروم، و كانذلك الوقت زمان شدة الحر و طابت ثمارالمدينة و أينعت، و استعظموا غزو الروم وهابوه، فنزلت هذه الآية. قال المحققون: وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه:أحدها: شدة الزمان في الصيف و القحط. وثانيها: بعد المسافة و الحاجة إلىالاستعداد الكثير الزائد على ما جرت بهالعادة في سائر الغزوات. و ثالثها: إدراكالثمار بالمدينة في ذلك الوقت. و رابعها:شدة الحر في ذلك الوقت. و خامسها: مهابةعسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعتفاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو.و اللّه أعلم.
المسألة الثالثة: يقال: استنفر الإمامالناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفرا ونفورا، إذا حثهم و دعاهم إليه،
و منه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«إذا استنفرتم فانفروا» و أصل النفرالخروج إلى مكان لأمر واجب، و اسم ذلكالقوم الذين يخرجون النفير، و منه قولهم:فلان لا في العير و لا في النفير. و قوله:اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أصلهتثاقلتم، وبه قرأ الأعمش و معناه: تباطأتمو نظيره قوله: فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72]و قوله: اطَّيَّرْنا بِكَ [النمل: ] قالصاحب «الكشاف»: و ضمن معنى الميل و الإخلادفعدي بالى، و المعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها و كرهتم مشاق السفر و متاعبه، ونظيره أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الأعراف: 176] و قيل معناهملتم إلى الإقامة بأرضكم و البقاء فيها، وقوله: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ و إنكان في الظاهر استفهاما إلا أن المراد منهالمبالغة في الإنكار.ثم قال تعالى: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِالدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُالْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِإِلَّا قَلِيلٌ و المعنى كأنه قيل قدذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلىالقتال، و قد شرحنا المنافع العظيمة التيتحصل عند القتال، و بينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم،فتركتم جميع هذه الأمور، أليس أن معبودكميأمركم بمقاتلتهم و تعلمون أن طاعةالمعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة؟فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم فيالآخرة، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة فيالدنيا؟ و الدليل على أن متاع الدنيا فيالآخرة قليل، إن لذات الدنيا خسيسة فيأنفسها و مشوبة بالآفات و البليات ومنقطعة عن قريب لا محالة، و منافع الآخرةشريفة عالية خالصة عن كل الآفات، و دائمةأبدية سرمدية و ذلك يوجب القطع بأن متاعالدنيا قليل حقير خسيس.
المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدلعلى وجوب الجهاد في كل حال