الأول: أنه صدر عن النبيعليه الصلاة و السلام شيء من باب تركالأفضل، و هو المشار إليه بقوله تعالى:عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَلَهُمْ [التوبة: 43] و أيضا لما اشتد الزمانفي هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيءشرحها، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلكالسفرة، و ربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنانقدر على الفرار. و لست أقول عزموا عليه،بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم، فاللّهتعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفاعنها. فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَىالنَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ.
و الوجه الثاني:
في الجواب أن الإنسان طولعمره لا ينفك عن زلات و هفوات، إما من بابالصغائر، و إما من باب ترك الأفضل. ثم إنالنبي عليه السلام و سائر المؤمنون لماتحملوا مشاق هذا السفر و متاعبه، و صبرواعلى تلك الشدائد و المحن، أخبر اللّهتعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرالجميع الزلات التي صدرت عنهم في طولالعمر، و صار قائما مقام التوبة المقرونةبالإخلاص عن كلها. فلهذا السبب قال تعالى:لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّالآية.
و الوجه الثالث:
في الجواب: أن الزمان لمااشتد عليهم في ذلك السفر، و كانت الوساوستقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلبواحد منهم تاب إلى اللّه منها، و تضرع إلىاللّه في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهمعلى التوبة بسبب خطرات تلك الوساوسببالهم، قال تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُعَلَى النَّبِيِّ الآية.
و الوجه الرابع:
لا يبعد أن يكون قد صدر عنأولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنهتعالى تاب عليهم و عفا عنهم لأجل أنهمتحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضمذكر الرسول عليه الصلاة و السلام إلىذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين. وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها، ضمالرسول عليه الصلاة و السلام إليهم فيقبول التوبة.
المسألة الثانية: في المراد بساعة العسرةقولان:
القول الأول:
أنها مختصة بغزوة تبوك،و المراد منها الزمان الذي صعب الأمرعليهم جدا في ذلك السفر و العسرة تعذرالأمر و صعوبته. قال جابر: حصلت عسرة الظهرو عسرة الماء و عسرة الزاد. أما عسرة الظهر:فقال الحسن: كان العشرة من المسلمينيخرجون على بعير يعتقبونه بينهم، و أماعسرة الزاد، فربما مص التمرة الواحدةجماعة يتناوبونهما حتى لا يبقى من التمرإلا النواة، و كان معهم شيء من شعيرمسوس، فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيهأخذ أنفه من نتن اللقمة. و أما عسرة الماء:فقال عمر: خرجنا في قيظ شديد و أصابنا فيهعطش شديد، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصرفرثه و يشربه.و اعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة، و جهزهم عثمانو غيره من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم.
و القول الثاني:
قال أبو مسلم: يجوز أنيكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول و علىالمؤمنين،فيدخل فيه غزوة الخندق و غيرها. و قد ذكراللّه تعالى بعضها في كتابه كقوله