تفسير سورة هود من آية 96 إلى آية 111
(فمنهم شقي وسعيد) لما أطلق الشقي والسعيد منكرين للتعظيم دل علىالشقي والسعيد الأزليين الأبديين، ولما وصفهم في التقسيم التفصيلي استثنى عن خلود
الشقي في النار وخلود السعيد في الجنة بقوله: (إلا ما شاء ربك) لأن المراد بالنار
والجنة عذاب النفس بنار الحرمان عن المراد وآلام الهيئات والآثار وثواب النفس بجنة
حصول المرادات واللذات وبالاستثناء عن الخلود فيهما خروج الشقي منها إلى ما هو
أشد منه من نيران القلب في حجب الصفات والأفعال بالسخط والطرد والإذلال
والإهانة، ونيران الروح بالحجب واللعن والقهر وخروج السعيد منها إلى ما هو ألذ
وأطيب من جنان القلب في مقام تجليات الصفات بالرضوان واللطف والإكرام
والإعزاز وجنان الروح في مقام الشهود باللقاء وظهور سبحات الجلال، وما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكون الشقي في مقابلة السعيد
وخروج السعيد من الجنة إلى النار محال، وقد دل عليه بقوله: (عطاء غير مجذوذ)
أي: غير مقطوع، فكذا ما يقابله على أن قوله تعالى: (فعال لما يريد) يشعر بذلك
لكونه وعيدا شديدا.
هذا لسان الأدب ومراعاة الظواهر في تحقيق البواطن، وأما
الحقيقة فتحكم بأن الشقي لما كان في المراتب المذكورة في النار لم يخرج منها بل
انتقل من طبقة منها إلى طبقة أخرى ومن دركة إلى دركة فكان في حكم الخلود
فالمراد بالاستثناء غيره وهو أنه من حيث الأحدية مع ربه والرب آخذ بناصيته على
صراط مستقيم يقوده ريح الدبور التي هي هوى نفسه يسوقه إلى جهنم، فهو هنالك
في عين القرب مع هوى نفسه فيتلذذ بما يوافقه فتصير عين النعيم، فزال مسمى النار
في حقه وصار جنة لتلذذه به وإن كان بعيدا عن نعيم السعيد كما جاء في الحديث:
'' سينبت في قعر جهنم الجرجير ''.
وفيه: '' يأتي على جهنم زمان يصفق أبوابها ليس
فيها أحد ''.
وكذا السعيد، فإن انتقاله في الجنان ودرجاتها والخروج بحكم الاستثناء
غير ذلك فهو بفنائه في أحدية الذات واحتراقه بلوعة العشق في سبحات الجمال حيث
كان الحق شاهدا ومشهودا لا في مقام المشاهدة بوجود الروح بل بالشهود الذاتي
الأحدي الذي لم يبق فيه لغيره عين ولا أثر ولا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر. وإن جعل التنكير في قوله: (شقي وسعيد) للنوعية لا للتعظيم، جاز
تأويل خروج الشقي من النار بالترقي إلى الجنة من مقامه بزكاء نفسه عن الهيئات
المظلمة وتبعات المعاصي وحينئذ لا يكون شقي الأبد.
تفسير سورة هود من آية 112 إلى آية 113
(فاستقم كما أمرت) في القيام بحقوق الله بالله، فإنه عليه صلى الله عليه وسلممأمور بمحافظة حقوق الله والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه بضبط أحكام التجليات
الصفاتية بعد الرجوع إلى الخلق مع شهود الوحدة الذاتية بحيث لا يتحرك ولا يسكن
ولا ينطق ولا يتفكر إلا به من غير ظهور تلوين من بقايا صفاته أو ذاته ولا يخطر له
خاطر بغيره من غير إخلال بشرط ما من شرائط التعظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: '' أفلا أكون
عبدا شكورا؟ '' حين تورمت قدماه من قيام الليل وقيل له: أما بشرك الله بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) [الفتح، الآية: 2]؟، ولا بدقيقة من باب النهي عن
المنكر والأمر بالمعروف والإنذار والدعوة وذلك في غاية الصعوبة.
ولهذا قال:
'' شيبتني سورة هود ''.
قيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرفاء في المنام، فسأله عن
ذلك وقال: لماذا يا رسول الله؟ ألقصص الأنبياء وما نزل بأممهم المكذبين من العذاب
وما كانوا يقاسون من أممهم؟، قال: '' لا، بل لقوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) ''.