ثمّ إنّ قول المصنّف (رحمه الله): " الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها، وبه تُعرف الأشـياء " إنّما هو كقولهم: العِلم بديهي التصـوّر، وغيرُه يُعرف به، فلا يُحَدّ. فالإدراك حينئذ ـ أعني الإحساس بالحواسّ الظاهريّة ـ بمنزلة العلم الذي هو الإدراك بالقوى الباطنية، في كونهما معاً بديهيَّين، مفهوماً، ووجوداً، وشروطاً. وهذا كلام ظاهر المفهوم، محصّل المعنى، لمن له تحصيل! ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) أراد بمبدأ الفطرة: ما قبل الولادة، وهو زمن تعلّق النفس الحيوانية ـ أي قوى الحيوان المدركة والمحرّكة ـ بالبدن، لقوله: " فيحسّ الطفل في أوّل ولادته ". إذ لا يجتمع إثبات الإحساس له مع قوله: " النفس في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم " لو أراد بـ " مبدأ الفطرة " ما هو عند الولادة، فلا بُـدّ من اختلاف الزمان، وأنّه أراد بـ " مبدأ الفطرة " ما قبل الولادة. كما أنّه أراد بالأطفال: مطلق الصغار ـ ولو قبل الولادة ـ لا خصوص المولودين، ولذا حكم بخلوّهم عن العلوم في مبدأ الفطرة، حتّى العلم بذواتهم، إذ لا دليل على اسـتثنائه ـ كما فعله الخصم تقليداً لغيره ـ، فإنّ الحياة لا تسـتلزم الشعور والإدراك حتّى للذات. ولذا ترى من أصابه الـبَـنْـج(1) حيّـاً لا إدراك له أصـلا، ولا نعرف
(1) البَـنْـج: نبت معروف مُسْـبِتٌ مُخدِّر، مُخَبِّطٌ للعقل، مُجنِّن، مسكِّن لأوجاع الأورام والبثور وأوجاع الأُذن، طلاءً وضِماداً. انظر: تاج العروس 3 / 300، مجمع البحرين 2 / 279، مادّة " بَنَجَ "، وانظر أيضاً: ألف باء الأعشاب والنباتات الطبّية 1 / 313 رقم 150.