مفاتیح الشرائع جلد 8
لطفا منتظر باشید ...
الباصرة، و لقد كان الرسول صلّى الله عليهوسلّم مخصوصاً بكمال هذه الصفة و يدل عليهو جهانالأول: قوله صلّى الله عليه وسلّم:«زويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها»و الثاني: قوله صلّى الله عليه وسلّم:«أقيموا صفوفكم و تراصوا فإني أراكم منوراء ظهري» و نظير هذه القوة ما حصللإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم و هو قولهتعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَمَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ[الأنعام: 75] ذكروا في تفسيره أنه تعالىقوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت منالأعلى و الأسفل قال الحليمي رحمه اللّه: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فرويأن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء منمسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصرالنبي صلّى الله عليه وسلّم أقوى منبصرهاو ثانيها: القوة السامعة، و كان صلّىالله عليه وسلّم أقوى الناى في هذه القوة،و يدل عليه و جهانأحدهما: قوله صلّى اللهعليه وسلّم: «أطت السماء و حق لها أن تئط مافيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد للّهتعالى» فسمع أطيط السماءو الثاني: أنه سمعدوياً و ذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلمتبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي: و لاسبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهمزعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيفالفلك، و نظير هذه القوة لسليمان عليهالسلام في قصة النمل قالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوامَساكِنَكُمْ [النمل: 18] فاللّه تعالى أسمعسليمان كلام النمل و أوقفه على معناه و هذاداخل أيضاً في باب تقوية الفهم، و كان ذلكحاصلًا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم حينتكلم مع الذئب و مع البعيرثالثها: تقويةقوة الشم، كما في حق يعقوب عليه السلام،فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصهإليه و إلقائه على وجهه، فلما فصلت العيرقال يعقوب إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ[يوسف: 94] فأحس بها من مسيرة أيامو رابعها:تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلّىالله عليه وسلّم حين قال: «إن هذا الذراعيخبرني أنه مسموم» و خامسها: تقوية القوةاللامسة كما في حق الخليل حيث جعل اللّهتعالى النار برداً و سلاماً عليه، فكيفيستبعد هذا و يشاهد مثله في السمندل والنعامة، و أما الحواس الباطنة فمنها قوةالحفظ، قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلاتَنْسى [الأعلى: 6] و منها قوة الذكاء قالعلي عليه السلام: «علمني رسول اللّه صلّىالله عليه وسلّم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب» فإذا كان حالالولي هكذا، فكيف حال النبي صلّى اللهعليه وسلّم.و أما القوى المحركة: فمثل عروج النبيصلّى الله عليه وسلّم إلى المعراج، و عروجعيسى حياً إلى السماء، و رفع إدريس و إلياسعلى ما وردت به الأخبار، و قال اللّهتعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَالْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْيَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40].و أما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، و نهاية الصفاء.و اعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أنالنفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتهالسائر النفوس، و من لوازم تلك النفسالكمال في الذكاء، و الفطنة، و الحرية، والاستعلاء، و الترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاءو الشرف، و كان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة و المدركةفي غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوارفائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل و القابل في غاية الكمالكانت الآثار في غاية القوة و الشرف والصفاء.إذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَاصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً معناه: إن اللّهتعالى اصطفى آدم إما من سكان العالمالسفلي على قول من يقول: الملك أفضل منالبشر، أو من سكان العالم العلوي على قولمن يقول: البشر أشرف المخلوقات، ثم وضعكمال القوة الروحانية في شعبة معينة منأولاد آدم عليه السلام، هم شيث و أولاده،إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثمحصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل و إسحاق،فجعل إسماعيل مبدأ