يبق إلّا فضل السّكنى بالمدينة و هو هجرةفقول الحجّاج لسلمة حين سكن الباديةارتددت على عقبيك تعرّبت نعى عليه في تركالسّكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدّعاءالمأثور الّذي قدمناه و هو قوله لا تردّهمعلى أعقابهم و قوله تعرّبت إشارة إلى أنّهصار من الأعراب الّذين لا يهاجرون و أجابسلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين و أنّالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن له فيالبدو و يكون ذلك خاصّا به كشهادة خزيمة (1)و عناق أبي بردة (2) أو يكون الحجّاج إنّمانعى عليه ترك السّكنى بالمدينة فقط لعلمهبسقوط الهجرة بعد الوفاة و أجابه سلمةبأنّ اغتنامه لإذن النّبيّ صلّى الله عليهوسلّم أولى و أفضل فما آثره به و اختصّهإلّا لمعنى علمه فيه و على كلّ تقدير فليسدليلا على مذمّة البدو الّذي عبّر عنهبالتّعرّب لأنّ مشروعيّة الهجرة إنّماكانت كما علمت لمظاهرة النّبيّ صلّى اللهعليه وسلّم و حراسته لا لمذمّة البدو فليسفي النّعي على ترك هذا الواجب دليل علىمذمّة التّعرّب و الله سبحانه أعلم و بهالتّوفيق.
الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلىالشجاعة من أهل الحضر
و السّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقواجنوبهم على مهاد الراحة و الدّعة وانغمسوا في النّعيم و التّرف و وكلواأمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهمإلى واليهم و الحاكم الّذي يسوسهم والحامية الّتي تولّت حراستهم و استنامواإلى الأسوار الّتي تحوطهم و الحرز الّذييحول دونهم فلا تهيجهم هيعة (3) و لا ينفرلهم صيد فهم غارّون (4) آمنون، قد ألقواالسّلاح و توالت على ذلك منهم الأجيال وتنزّلوا منزلة
(1) هو خذيمة بن ثابت الأنصاري من أصحابرسول الله صلّى الله عليه وسلّم و قد جعلشهادته بشهادة رجلين.
(2) العناق: أم الأنثى من ولد المعز قبلاستكمالها السنة. و قد أجاز النبي صلّىالله عليه وسلّم لأبي بردة ابن نيار خاصةأن يضحّي بها قصد ابن خلدون فهو استثناءالخصوصيات من عموم الأحكام، لما وردبشأنها في أحاديث الرسول صلّى الله عليهوسلّم.
(3) هيعة: الصوت المرعب و المخيف.
(4) غارّون: مطمئنون.