تعليم العلم. و أكّد ذلك فيها و حفظه ماوقع لهذه العصور بها منذ مائتين منالسّنين في دولة التّرك من أيّام صلاحالدّين بن أيّوب و هلمّ جرّا. و ذلك أنّأمراء التّرك في دولتهم يخشون عاديةسلطانهم على من يتخلّفونه من ذرّيّتهم لماله عليهم من الرّقّ أو الولاء و لما يخشىمن معاطب الملك و نكباته. فاستكثروا منبناء المدارس و الزّوايا و الرّبط (1) ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة يجعلون فيهاشركا (2) لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها معما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد و الأفعال.فكثرت الأوقاف لذلك و عظمت الغلّات والفوائد و كثر طالب العلم و معلّمه بكثرةجرايتهم منها و ارتحل إليها النّاس في طلبالعلم من العراق و المغرب و نفقت بها أسواقالعلوم و زخرت بحارها. و الله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة فيالعمران لهذا العهد
اعلم أنّ العلوم الّتي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا و تعليما هيعلى صنفين: صنف طبيعيّ للإنسان يهتدي إليهبفكره، و صنف نقليّ يأخذه عمّن وضعه. والأوّل هي العلوم الحكميّة الفلسفيّة و هيالّتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعةفكره و يهتدي بمداركه البشريّة إلىموضوعاتها و مسائلها و أنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتّى يقفه (3) نظره و يحثّه (4)على الصّواب من الخطإ فيها من حيث هو إنسانذو فكر. و الثاني هي العلوم النّقليّةالوضعيّة و هي كلّها مستندة إلى الخبر عنالواضع الشّرعيّ. و لا مجال فيها للعقل
(1) جمع رباط: الحصن أو المكان الّذي يرابطفيه الجيش، و الأنسب كلمة رباطات و هيالمعاهد المبنية و الموقوفة للفقراء.
(2) الشرك: الحصة.
(3) قوله: حتى يقفه نظره. يستعمل وقف متعديافتقول: وقفته على كذا أي اطلعته عليه. قالهنصر.
(4) و في نسخة أخرى: بحثه.