الفصل التاسع في ان الأوطان الكثيرةالقبائل و العصائب قل ان تستحكم فيها دولة
و السّبب في ذلك اختلاف الآراء و الأهواءو أنّ وراء كلّ رأي منها و هوى عصبيّةتمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ وقت و إن كانت ذاتعصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدهاتظنّ في نفسها منعة و قوّة و انظر ما وقع منذلك بإفريقيّة و المغرب منذ أوّل الإسلامو لهذا العهد فإنّ ساكن هذه الأوطان منالبربر أهل قبائل و عصبيّات فلم يغن فيهمالغلب الأوّل الّذي كان لابن أبي سرحعليهم و على الإفرنجة شيئا و عاودوا بعدذلك الثّورة و الرّدّة مرّة بعد أخرى و عظمالإثخان (1) من المسلمين فيهم و لمّا استقرّالدّين عندهم عادوا إلى الثّورة و الخروجو الأخذ بدين الخوارج مرّات عديدة قال ابنأبي زيد ارتدّت البرابرة بالمغرب اثنتيعشرة مرّة و لم تستقرّ كلمة الإسلام فيهمإلّا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده وهذا معنى ما ينقل عن عمر أنّ إفريقة مفرّقةلقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرةالعصائب و القبائل الحاملة لهم على عدمالإذعان و الانقياد و لم يكن العراق لذلكالعهد بتلك الصّفة و لا الشّام إنّما كانتحاميتها من فارس و الرّوم و الكافّة دهماءأهل مدن و أمصار فلمّا غلبهم المسلمون علىالأمر و انتزعوه من أيديهم لم يبق فيهاممانع و لا مشاقّ (2) و البربر قبائلهمبالمغرب أكثر من أن تحصى و كلّهم بادية وأهل عصائب و عشائر و كلّما هلكت قبيلة عادتالأخرى مكانها و إلى دينها من الخلاف والرّدّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولةبوطن إفريقية و المغرب و كذلك كان الأمربالشّام لعهد بني إسرائيل كان فيه من(1) اثخن في العدو: أكثر في القتل و الجرح وورد في الآية 67 من سورة الأنفال «ما كانَلِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىحَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ 8: 67».(2) مخالف و في الآية 4 من سورة الحشر «ذلِكَبِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَ رَسُولَهُ59: 4».