الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهلبالذات عالم بالكسب
قد بيّنا أوّل هذه الفصول أنّ الإنسان منجنس الحيوانات، و أنّ الله تعالى ميّزهعنها بالفكر الّذي جعل له، يوقع به أفعالهعلى انتظام و هو العقل التمييزيّ أو يقتنصبه العلم بالآراء و المصالح و المفاسد منأبناء جنسه، و هو العقل التجريبيّ، أويحصل به في تصوّر الموجودات غائبا وشاهدا، على ما هي عليه، و هو العقلالنظريّ. و هذا الفكر إنّما يحصل له بعدكمال الحيوانيّة فيه، و يبدأ من التمييز،فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة،معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه فيالتكوين، من النطفة و العلقة و المضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له منمدارك الحسّ و الأفئدة الّتي هي الفكر. قالتعالى في الامتنان علينا: «وَ جَعَلَلَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78» فهو في الحالة الأولىقبل التمييز هيولى فقط، لجهله بجميعالمعارف. ثمّ تستكمل صورته بالعلم الّذييكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانيّة فيوجودها. و انظر إلى قوله تعالى مبدإ الوحيعلى نبيّه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَالَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ منعَلَقٍ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُالَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَالْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» أيأكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أنكان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتيّ و العلمالكسبيّ و أشارت إليه الآية الكريمة تقرّرفيه الامتنان عليه بأوّل مراتب وجوده، وهي الإنسانيّة. و حالتاه الفطريّة والكسبيّة في أوّل التنزيل و مبدإ الوحي. وكان الله عليما حكيما