الفصل الخامس و الثلاثون في المقاصد التيينبغي اعتمادها بالتأليف و الغاء ما سواها
اعلم أنّ العلوم البشريّة خزانتها النفسالإنسانيّة بما جعل الله فيها من الإدراكالّذي يفيدها ذلك الفكر المحصّل لها ذلكبالتّصوّر للحقائق أوّلا، ثمّ بإثباتالعوارض الذاتيّة لها أو نفيها عنهاثانيا، إمّا بغير وسط أو بوسط، حتّىيستنتج الفكر بذلك مطالبه الّتي يعنىبإثباتها أو نفيها. فإذا استقرّت من ذلكصورة علميّة في الضمير فلا بدّ من بيانهالآخر، إمّا على وجه التعليم، أو على وجهالمفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. و ذلكالبيان إنّما يكون بالعبارة، و هي الكلامالمركّب من الألفاظ النطقيّة الّتي خلقهاالله في عضو اللّسان مركّبة من الحروف، وهي كيفيّات الأصوات المقطّعة بعضلةاللّهاة و اللّسان ليتبيّن بها ضمائرالمتكلّمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذهرتبة أولى في البيان عمّا في الضمائر، و إنكان معظمها و أشرفها العلوم، فهي شاملةلكلّ ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاءعلى العموم. و بعد هذه الرتبة الأولى منالبيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير،لمن توارى أو غاب شخصه و بعد، أو لمن يأتيبعد و لم يعاصره و لا لقيه. و هذا البيانمنحصر في الكتابة، و هي رقوم باليد تدلّأشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظالنطقيّة حروفا بحروف و كلمات بكلمات،فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطةالكلام المنطقيّ، فلهذا كانت في الرتبةالثانية واحدا، فسمّي هذا البيان. يدل علىما في الضمائر من العلوم و المعارف، فهوأشرفها. و أهل الفنون معتنون بإيداع مايحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراقبهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصولهللغائب و المتأخّر، و هؤلاء هم المؤلّفون.و التآليف بين العوالم البشريّة و الأممالإنسانيّة كثير، و منتقلة في الأجيال والأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و المللو الأخبار عن الأمم و الدول.