و يأتي بالهواء الصّحيح و لهذا أيضا فإنّالموتان يكون في المدن الموفورة العمرانأكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق و فاسبالمغرب و الله يقدّر ما يشاء (1)
الفصل الثاني و الخمسون في أن العمرانالبشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره
اعلم أنّه قد تقدّم لنا في غير موضع أنّالاجتماع للبشر ضروريّ و هو معنى العمرانالّذي نتكلّم فيه و أنّه لا بدّ لهم فيالاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه و حكمهفيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عندالله يوجب انقيادهم إليه إيمانهمبالثّواب و العقاب عليه الّذي جاء بهمبلّغه و تارة إلى سياسة عقليّة يوجبانقيادهم إليها ما يتوقّعونه من ثواب ذلكالحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصلنفعها في الدّنيا و الآخرة لعلم الشّارعبالمصالح في العاقبة و لمراعاته نجاةالعباد في الآخرة و الثّانية إنّما يحصلنفعها في الدّنيا فقط و ما تسمعه منالسّياسة المدنيّة فليس من هذا الباب وإنّما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكونعليه كلّ واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسهو خلقه حتّى يستغنوا عن الحكّام رأسا ويسمّون المجتمع الّذي يحصل فيه ما يسمّىمن ذلك «بالمدينة الفاضلة»، و القوانينالمراعاة في ذلك «بالسّياسة المدنيّة» وليس مرادهم السّياسة الّتي يحمل عليها أهلالاجتماع بالمصالح العامّة فإنّ هذه غيرتلك و هذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أوبعيدة الوقوع و إنّما يتكلّمون عليها علىجهة الفرض و التّقدير ثمّ إنّ السّياسةالعقليّة الّتي قدّمناها تكون على وجهينأحدهما يراعى
(1) بعد الدراسات الحديثة المتعلقة بحياةالإنسان في المدينة و الريف، حيث أن متوسطعمر الإنسان في الريف يزيد عن مثله فيالمدينة كثيرا، و هذا يؤكد نظرية ابنخلدون من هذه الناحية، لان مناخ المدينةالمشبع بدخان المصانع و المعامل والسيارات و غيرها غير مناخ الريف النظيفالنقي.