استطراد في معنى الجمل الخبرية والانشائية
لكاذبون في قولهم : إنك لرسول الله ، لعدم اعتقادهم بالرسالة المحمدية و إن كان قولهم مطابقا للواقع .و أجابوا عنه بأن المنافقين لكاذبون في شهادتهم للرسالة ، لعدم كونها عن خلوص الاعتقاد .و توضيح ذلك يحتاج إلى مقدمتين : الاولى : ان الشهادة في العرف و اللغة ( 1 ) بمعنى الحضور سواء كان حضورا خارجيا كقوله تعالى ( 2 ) : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) .و كقول المسافر : شاهدت البلد الفلانية و أقمت فيها أم حضورا ذهنيا ، كحضور الواقعة في ذهن الشاهد .الثانية : أن المخبر به قد يكون أمرا خارجيا ، و قد يكون امرا اعتباريا ، و قد يكون أمرا ذهنيا كالاخبار عن الصور النفسانية .فيتجلى من هاتين المقدمتين ان الاخبار عن الشهادة بالرسالة مبني على حضور المخبر به و المشهود به في صقع الذهن ، لان الشهادة ليست من الاعيان الخارجية .و حيث إن المنافقين معتقدين بالرسالة ، و لم يكن المخبر به و هو الاعتقاد بالنبوة موجودا في أذهانهم فرماهم الله إلى الكذب و الفرية ، فلا دلالة في الآية على مقصود النظام .و يضاف إلى ذلك انه لو أخبر احد عن قضية لم يعتقد بوقوعها في الخارج و هي واقعة فيه ، فانه على مسلك النظام خبر كاذب ، مع أنه صادق بالضرورة .و عن الجاحظ ان صدق الخبر مطابقته للواقع و الاعتقاد معا ، و كذبه عدم مطابقته لهما معا ، و غير ذلك لا صدق و لا كذب ، و استدل على رأيه هذا بقوله تعالى ( 3 ) : ( افترى على الله كذبا أم به جنة ) .فان الاخبار حال الجنة الكذب ، لانهم جعلوه قسيما للافتراء و غير الصدق ، لعدم مطابقته للواقع في عقيدتهم .و فيه أنا نرى بالعيان ، و نشاهد بالوجدان و بحكم الضرورة انحصار الخبر بالصدق و الكذب و عدم الواسطة بينهما .و أما الآية المذكورة فهي غريبة عن مقصود الجاحظ ، لان الظاهر منها ان المشركين نسبوا اخبار النبي صلى الله عليه و آله إلى الافتراء الذي هو كذب خاص ، أو إلى الاخبار حال الجنة الذي لا اثر له عند العقلاء .و التحقيق ان الجمل بأجمعها خبرية كانت أم إنشائية قد وضعت بهيئاتها النوعية لابراز الصور الذهنية ، و إظهار الدعاوي النفسانية ( ما شئت فعبر ) فان الواضع ( اي شخص كان ) إنما تعهد ( و تابعه بقية الناس ) بأن متى أراد ان يبرز شيئا من دعاويه و مقاصده ان يتكلم1 - في المنجد : شهد المجلس حضره .2 - سورة البقرة ، آية : 181 .( 3 ) سورة سبأ ، آية : 8 .