خطبه 149-پيش از وفاتش
اقول:اطردت الايام:صيرتها طريده لى. و شرد الجمل:ذهب لوجهه. و دحضت القدم:زلفت. و اضمحل:فنى. و المخط:الاثر. و هذا الفصل محل الوعظ و الاعتبار. فايه بالناس و نبههم على لحوق ضروره الموت المنفور منه طبعا. و احسن بقوله:فى فراره. فانه لما كان الانسان دائما فارا من الموت و متوقيا له، و كان لابد منه. لاجرم كان ضرورى اللقاء له فى فراره. و الاجل قد يراد به غايه الحياه الدنيا كما قال تعالى فاذا جاء اجلهم لايستاخرون و قد يراد به المده المضروبه للانسان و هى مده عمره، و اياه عنى هيهنا بقوله:و الاجل مساق النفس فان مده بقائها فى هذا البدن هو مساقها الى غايتها لا محل قرارها. و قوله:و الهرب منه موافاته. فى غايه اللطف، و ذلك ان الفار من الموت مثلا بالحركات و العلاجات و نحوها يستلزم حركاته فى ذلك فناء الاوقات و تصرمها و قطع تلك الاوقات مستلزم لملاقاته و موافاته فاطلق لفظ الموافاه على الهرب مجازا اطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. و قوله:كم اطردت الايام. اى صيرتها طريده لى اتبع بعضها بعضا بالبحث و تعرف مكنون هذا الامر:اى الذى وقع له من القتل، و ذلك المكنون هو وقته المعين بالتفصيل و مكانه فان ذلك مما استاثرالله تعالى بعلمه كقوله تعالى ان الله عنده علم الساعه و قوله و ما تدرى نفس باى ارض تموت و ان كان قد اخبره الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بكيفيه قتله مجملا كما روى عنه انه قال:ستضرب على هذه- و اشار الى هامته- فيخضب منها هذه- و اشار الى لحيته-. و عنه انه قال:اتعلم من اشقى الاولين؟ قال:نعم عاقر الناقه. فقال له:اتعلم من اشقى الاخرين؟ قال:لا. قال:من يضربك هيهنا فيخضب هذه. و اما بحثه هو فعن تفصيل الوقت و المكان و نحوهما من القرائن المشخصه، و ذلك البحث اما بالسوال من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مده حياته و كتمانه اياه او بالفحص و التفرس من قرائن احواله فى سائر اوقاته مع الناس. فابى الله الا ان تخفى عنه تلك الحال. هيهات:اى بعد ذلك العلم فهو علم مخزون. ثم شرع فى الوصيه فبدء بالاهم فالاهم فالاول:هو الاخلاص لله بالاعراض عن كل ما سواه، و فى ذلك لزوم اوامره و نواهيه و سائر ما نطق به كتابه العزيز. الثانى:لزوم سنه محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عدم اهمالها. و انما قدم اسم الله على محمد لما بينا ان الواجب فى علم البيان تقديم الاهم. ثم اكد القول فى الامر باتباع التوحيد المطلق و السنه النبويه، و استعار لهما لف
ظ العمودين و رشح بذكر الاقامه، و لفظ المصباحين و رشح بذكر الايقاد، و وجه الاستعاره الاولى ان مدار الاسلام و نظام امور المسلمين فى معاشهم و معادهم على توحيد الله و لزوم ما جاء به رسوله كما ان مدار الخيمه و قيامها بالعمد، و وجه الثانيه:ان توحيد الله و الاقتداء بما جاء به رسوله مستلزمان للهدايه فى طريقه من ظلمات الجهل قايدان الى جواره فى جنات النعيم و هو المطلوب الحقيقى كما يهدى المصباح فى الظلام على الطريق الى المطلوب. و قوله:و خلاكم ذم. اى عداكم، و هى كلمه تجرى مجرى المثل:اى عند لزومكم لتوحيد الله و سنه رسوله لا ذم عليكم، و اول من قالها قصير مولى جذيمه حين حث عمرو بن عدى ابن اخت جذيمه على ثاره من الزباء. فقال له عمرو:كيف الى بذلك و الزباء امنع من عقاب الجو. فقال له قصير:اطلب الامر و خلاك ذم. و قوله:ما لم تشردوا. استثناء من نفى لحوق الذم لهم:اى اوقدوا هذين المصباحين فمادمتم كذلك فلا ذم يلحقلكم الا ان تشردوا:اى تتفرقوا عما انتم عليه. ثم لما كان قد امرهم بلزوم هذين الامرين اللذين يدور عليهما التكليف بين لهم بقوله:حمل كل امرى ء منكم. الى قوله:الجهله. ان التكليف بذلك يتفاوت فكل امرء من العلماء و اهل
النباهه و من هو بصدد العلم يحمل مجهوده و طاقته منه بالتنبيه على الادله و تعليمها، و اما الجهال كالنساء و اهل الباديه و الزنج و نحوهم من اهل الغباوه فتكليفهم دون ذلك و هو بالمحسوس من العبادات دون الامر بالتفكر فى مقاصدها. ثم ذكر وصف الرحمه للرب لمناسبه ما سبق من ذكر التخفيف عن الجهله فى التكليف. و دين قويم:لاعوج فيه و لازيغ عن القصد الحقيقى. و امام عليم:اشاره الى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم العالم بكيفيه سلوك طريق الله و مراحلها و منازلها، و الهادى فيها بما يقتضيه حكمته من القول و العمل، او الى نفسه لكونه وارث علمه و سالك مسالكه. و رب:خبر مبتدء محذوف و تقديره و ذلك المكلف رب رحيم، و يجوز ان يكون فاعلا لفعل يفسره قوله:حمل و خفف:اى يحملكم رب كقوله تعالى يسبح له فيها بالغدو و الاصال. رجال ثم ختم الوصيه بالدعاء لهم و له و بطلب المغفره. ثم تمم بالتنبيه لهم على وجه الاعتبار به، و هو تصرف حالاته بحسب الزمان فقد كان بالامس صاحبهم فى الحرب و منازعه الاقران و صاحب الامر و النهى فيهم، و اليوم عبره لهم بحال مصرعه و ضعفه عن الحراك، و غدا مفارقهم بالموت. و كل هذه التغييرات محل الاعتبار يجب التنبيه لها. و اراد بغد
اما حقيقه ان كان قد غلب على ظنه موته فى تلك الواقعه، او ما يستقبل من الزمان و ان بعد، و هذا ارجح لقوله:ان ثبتت الوطاه فى هذه المزله:اى يكن لى ثبات فى الدنيا و بقاء فى هذه المزله:اى محل الزوال عن الحياه فذاك المرجو، و كنى بثبات الوطاه عما ذكرناه، و بدحض القدم عن عدم ذلك بالموت. و قوله فى جواب الشرط:فانا كنا فى افياء اغصان. الى قوله:مخطها. اى و ان نمت فانا كنا فى كذا. و كنى بالامور المذكوره عن احوال الدنيا و ملذاتها و بقائه فيها و متاعه بها، و قيل:استعار لفظ الاغصان للاركان الاربعه من العناصر، و لفظ الافياء لما تستريح فيه النفوس من تركيبها فى هذا العالم، و وجه الاستعاره الاولى:ان الاركان فى مادتها كالاغصان للشجره، و وجه الثانيه:ان الافياء محل الاستراحه و اللذه كما ان الكون فى هذا البدن حين صحه التركيب و اعتدال المزاج من هذه الاركان كذلك. و كذلك استعار لفظ مهاب الرياح للابدان، و لفظ الرياح للارواح و النفحات الالهيه عليها فى هذه الابدان، و وجه الاولى:قبول الابدان لنفحات الجود كقبول مهاب الرياح لها استعاره لفظ المحسوس للمعقول، و وجه الثانيه:اظهر من ان يذكر. و كذلك لفظ الغمام للاسباب العلويه من الحركات ال
سماويه و الاتصالات الكوكبيه و الارزاق المفاضه على الانسان فى هذا العالم التى هى سبب بقائها، و وجهها الاشتراك فى الافاضه و السببيته، و كنى بظلها عما يستراح اليه منها كما يقال:فلان يعيش فى ظل فلان:اى فى عيشه و عنايته، و كنى باضمحلال متلفقها فى الجو عن تفرق الاسباب العلويه للبقاء و فنائها، و بعفاء مخطها فى الارض عن فناء آثارها فى الابدان، و الضمير فى متلفقها يعود الى الغمام، و فى مخطها يعود الى مهاب الرياح. و قوله:فانما كنت جارا جاوركم بدنى اياما. فيه تنبيه على ان نفسه القدسيه كانت متصله بالملا الاعلى، و لم يكن لها ميل الى البقاء فى الدنيا و مجاوره اهلها فيها فكانت مجاورته لهم ببدنه فقط، و ايضا فان المجاوره من عوارض الجسميه فيحتمل ان يكون ذلك تنبيها منه على وجود امر آخر غير البدن و هو النفس، و كنى بالايام عن مده حياته الدنيا. و قوله:و ستعقبون. اى توجدون فى عاقبه امركم منى جثه خاليه لا روح بها و لا حراك قد افقرت من تلك المعانى المعهوده لكم من العقل و النطق و القوه فهى متبدله بالحراك السكون، و بالنطق السكوت. ثم عاد الى امرهم بالاتعاظ بذلك الهدوء و خفوت الاطراق و سكون الاطراف بالموت. و قوله:فانه اوعظ للمع
تبرين من المنطيق البليغ. صاحب اللسن و الفصاحه كلام حق فان الطباع اكثر انفعالا و اعتبارا عن مشاهده ما فيه العبره من الوصف له بالقول المسموع، و لو بابلغ عباره. ثم اخذ عليه السلام فى توديعهم. فقوله:و داعيكم. انشاء لا خبر. و قوله:و داع امرء مرصد للتلاقى. اى معد و مهيا للقاء الله. و قوله:غدا ترون ايامى. الى آخره. تذكير لهم بفضيلته و تنبيه عليها ليثبت متبعوه على اتباعه، و الغافلون عن فضله و محله بينهم اذا فارقهم و ولى امرهم الظالمون بعده فلا بد ان ينكشف لهم ما كان مغطى عن اعين بصائرهم من لزومه للقصد فى سبيل الله، و يعرفون منزلته و فضله حين مشاهده المنكرات ممن يقوم مقامه خلفا فى الناس. و ان وقائعه و حروبه و حرصه على هذا الامر لم يكن لنيل دنيا بل لاقامه سنن العدل و رضا الله تعالى.